وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍيعني تعالى ذكره بقوله ويل لكل همزة الوادي يسيل من صديد أهل النار وقيحهم لكل همزة : يقول : لكل مغتاب للناس ، يغتابهم ويغضهم ، كما قال زياد الأعجم :
تدلي بودي إذا لا قيتني كذاً وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
ويعني باللمزة : الذي يعيب الناس ، وطعن فيهم .
وبنحوالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا مسروق بن أبان ، قال : ثنا وكيع ، عن رجل لم يسمه ، عن أبي الجوزاء ، قال : قلت لأبن عباس : من هؤلاء هم الذسين بدأهم الله بالويل ؟ قال : هم المشاءون بالنميمة ، فالمفرقون بين الأحبة ، الباغون أكبر العيب .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن أبيه ، عن رجل من أهل البصرة ، عن أبي الجوزاء ، قال : قلت لأبن عباس : من هؤلاء الذين ندبهم الله إلى الويل ؟ ثم ذكر نحو حديث مسروق بن أبان .
حدثنا ابن حميد ، قال :ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ويل لكل همزة لمزة قال : الهمزة يأكل لحوم الناس ، واللمزة : الطعان .
وقد روي عن مجاهد خلاف هذا القول ، وهو ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ويل لكل همزة قال : الهمزة : الطعان ، واللمزة :الذي يأكل لحوم الناس .
حدثنا مسروق بن أبان الحطاب ، قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، مثله .
وروي عنه أيضاً خلاف هذين القولين ، وهو ما :
حدثنا به ابن بشار ، قابل : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ويل لكل همزة لمزة قال : أحدهما الذي أكل لحوم الناس ، والآخر الطعان . وهذا يدل على أن الذي حدث بهذا الحديث قد كان أشكل عليه تأويل الكلمتين ، فلذلك اختلف نقل الرواة عنه ما رووا على ما ذكرت .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ويل لكل همزة لمزة أما الهمة : فآكل لحوم الناس ، وأما اللمزة : فالطعان عليهم .
حدثنا ابن حميد ، قال :ثنا مهران ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ،قال :الهمزة : آكل لحوم الناس ، واللهمزة : الطعان عليهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ويل لكل همزة لمزة قال : ويل لكل طعان مغتاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال الهمزة : يهمزه في وجهه ، واللهمزة : من خلفه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه ، ويأكل لحوم الناس ، ويطعن عليهم .
حدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الهمزة باليد ، واللمزة باللسان .
وقال آخرون في ذلك ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،قال : ابن زيد ، في قوله الله ويل لكل همزة لمزة قال : الهمزة: الذي يهمز الناس بيده ، ويضربهم بلسانه ، واللزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم .
واختلف في المعنى بقوله ويل لكل همزة فقال بعضهم : عني بذلك رجل من أهل الشرك بعينه ، فقال بعض من قال هذا القول : هو جميل بن عامر الجمحي .
وقال آخرون منهم : هو الأخنس بن شريق .
ذكر من قال عني به مشرك بعينه :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،قوله ويل لكل همزة لمزة قال : مشرك كان يلمز الناس ويهمزهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن رجل من أهل الرقة قال : نزلت في جميل بن عامر الجمحي .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال :ثنا ورقاء ، في قوله همزة لمزة قال : ليست بخاصة لأحد ، نزلت في جميل بن عامر ، قال ورقاء : زعم الرقاشي .
وقال بعض أهل العربية : هذا من نوع ما تذكر العرب اسم الشيء العام ، وهي تقصد به الواحد ، كما يقال في الكلام ، إذا قال رجل لأحد لا أزورك أبداً : كل من لم يزرني ، فلسيت بزائره ، وقائل ذلك يقصد جواب صاحبه القائل له : لا أزورك أبداً .
وقال آخرون : بل معنى به ، كل من كانت هذه الصفة صفته ، ولم يقصد به قصد آخر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ن قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله ويل لكل همزة لمزة ليست بخاصة لأحد .
والصواب من القول في ذلك ، أن يقال : إن الله عم بالقول كل همزة لمزة ، كل من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها ، سبيله سبيله كائناً من كان من الناس .
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ
وقوله : الذي جمع مالا وعدده يقول : الذي جمع مالاً وأحصى عدده ، ولم ينفقه في سبيل الله ، ولم يؤد حق الله فيه ، ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه من قراء أهل المينة أبو جعفر ، وعامة قراء الكوفة سوى عاصم : جمع بالتشديد ، وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والحجاز ، سوى أبو جعفر وعامة قراء البصرة ، ومن الكوفة عاصم ، جمع بالتخفيف ، وكلهم مجمعون على تشديد الدال من عدده ، على الوجه الذي ذكرت من تأويله . وذد ذكر عن بعض المتقدمين بإسناد غير ثابت ، أنه قرأه ( جمع مالاً وعدده ) بتخفيف الدال ، بمعنى : جمع مالاً ، وجمع عشيرته وعدده . وهذا قراءة لآ أستجيز القراءة بها ، لخلافها قراءة الأمصار ، وخروجها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك .
وأما قوله : جمع مالا فإن التشديد والتخفيف فيها صوابان ، لأنهما قراءتان معروفتان في قراة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
وقوله : يحسب أن ماله أخلده يقول : يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه ، مخله في الدنيا ، فمزيل عنه الموت . وقيل : أخلده ، والمعنى : يخلده ، كما يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سبيلاً لهلاكه : عطب والله فلان ، وهلك والله فلان ، بمعنى : أنه يعطب من فعله ذلك ، ولما يهلك بعد ولم يعطب ،وكالرجل يأتي الموبقة من الذنوب : دخل والله فلان النار .
كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ
وقوله : كلا يقول تعالى ذكره : ما ذلك كما ظهن ليس ماله مخلده . ثم أخبر جل ثناؤه أنه هالك ومعذب على أفعاله ومعاصيه التي كان يأتيها في الدنيا ، فقال جل ثناؤه : لينبذن في الحطمة : يقول : ليقذفن يوم القيامة في الحطمة ، والحطمة : اسم من أسماء النار ، كما قيل لها : جهنم وسقر ولظى ، وأحسبها سميت بذلك لحطمها كل ما ألقى فيها ، كما يقال للرجل الأكول : الحطمة .
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك ( لينبذان في الحطمة ) يعني : هذا الهمزة اللمزة وماله ، فثناه لذلك .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ
وقوله : وما أدراك ما الحطمة يقول : وأي شيء أشعرك يا محم ما الحطمة ، ثم أخبره عنها ما هي ، فقال جل ثناؤه : هي نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة يقول : التي يطلع ألمها ووهجها القلوب ، والأطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى ، حكي عن العرب ساعاً : تى طلعت أرضنا ، وطلعت أرضي : بلغت .
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ..الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ
وقوله : نار الله الموقدة . وقوله : التي تطلع على الأفئدة .
إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ
وقوله : إنها عليهم مؤصدة يقول تعالى ذكره : إن الحطمة التي وصفت صفتها عليهم ، يعني على هؤلاء الهمازين اللمازين مؤصدة يعني : طبقة . وهي تهمز ولا تعهمز ، وقد قرئتا جميعاً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا طلق ، عن ابن ظهير ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في مؤصدة ، قال : مطبقة .
حدثني عبيد بن أسباط ، قال :ثني أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله إنها عليهم مؤصدة قال : مطبقة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : في النار رجل في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام : يا حنان يا منان ، فيقول رب العزة لجبريل : أخرج عبدي من النار ، فيأتيهما فيجدها مطبقة ، فيرجع فيقول : يا رب إنها عليهم مؤصدة فيقول : يا جبريل فكها ، وأخرج عبدي من النار ، فيفكها ، وبخرج مثل الخيال ، فيطح على ساحل الجنة حتى ينبت الله له شعراً ولحماً ودماً .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال :ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله إنها عليهم مؤصدة قال : مطبقة .
حدثنا أبو كريب ، قال :ثنا وكيع ، عن منضرس بن عبد الله ، قال : سمعت الضحاك إنها عليهم مؤصدة قال : مطبقة .
حدثني محمد بن سعد ،قال :ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال :ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس : إنها عليهم مؤصدة قال : عليهم مغلقة .
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة إنها عليهم مؤصدة : أي مطبقة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله إنها عليهم مؤصدة قال : مطبقة ، والعرب تقول : أو صد الباب : أغلق .
فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ
وقوله : في عمد ممددة اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته قراء المدينة والبصرة في عمد بفتح العين والميم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( في عمد ) بضم العين والميم . والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان . قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، ولغتان صحيحتان . والعرب تجمع العمود : عمداً وعمداً ، بضم الحرفين وفتحهما ، وكذلك تفعل في جمع إهاب ، تجمعه : أهبا بضم الألف والهاء وأهباً بفتحهما ، وكذلك القضم ، فبأيتهما ، فبأيتهما قرأ القارئ فصيب .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة : أي مغلقة طبقة عليهم ، وكذلك هو في قراءة عبد الله فيما بلغنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن قتادة ، في قراءة عبد الله ( إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة ) .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنما دخلوا في عمد ، ثم مدت عليهم تلك العمد بعماد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني ، قال : ثني عمي ، قال :ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في عمد ممددة قال : أدخلهم في عمد ، فمدت عليهم بعماد ، وفي أعناقهم السلاسل ، فسدت بها الأبواب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في عمد من حديد مغلولين فيها ، وتلك العمد من نار قد احترقت من النار ،فهي من نار ممددة لهم .
وقال آخرون : هي كعمد يعذبون بها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في عمد ممددة كنا نحدث أنها عمد يعذبونه بها في النار . قال بشر : قال يزيد : قفي قراءة قتادة عمد .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة في عمد ممددة قال : عمود يعذبون به في النار .
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : معناه أنهم يعذبون بعد في النار ، والله أعلم كيف تعذيبه إياهم بها ، ولم يأتنا خبر تقوم به الحجة بصفة تعذيبهم بها ، ولا وضع لنا عليها دليل ، فندرك به صفة ذلك ، فلا قول فيه ، غير الذي يصح عندنا ، والله أعلم .