لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل والمشركون من عبدة الأوثان منفكين يقول : منتهين ، حتى يأتيهم هذا القرآن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله منفكين قال : لم يكونوا لينتهوا حتى يتبين لهم الحق .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن قتادة في قوله منفكين قال : منتهين عما هم فيه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله منفكين حتى تأتيهم البينة : أي هذا القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله والمشركين منفكين قال : ل ميكونوا منتهين حتى يأتيهم ، ذلك المنفك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون ، لم يكونوا تاركين صفة محم في كتابهم ، حتى بعث ، فلما بعث تفرقوا فيه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، أن يقال : معنى ذلك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد ، حتى تأتيهم البينة ، وهي إرسال الله إياه رسولاً إلى خلقه ، رسول من الله . وقوله منفكين في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر ، ولذلك صلح بغير خبر ، ولو كان بمعنى ما زال ، احتاج إلى خبر يكون تماماً له .
رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً
واستؤنف قوله : رسول من الله وهي نكرة على البينة ، وهي معرفة ، كما قيل : ذو العرش المجيد * فعال [ البروج : 15_ 16] فقال : حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول الله ، ببعثة الله إياه إليهم . ثم ترجم عن البينة، فقال : تلك البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة يقول : يقرأ صحفاً مطهرة من الباطل .
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
قوله : فيها كتب قيمة يقول : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ، لأنها من عند الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ
وقوله : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة يقول : وما تفرق اليهود والنصارى في أر محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذبوا به ، إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البينة : يعني : بيان أمرمحمد ، أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه ، يقول : فلما بعثه الله تفرقوا فيه ، فكذب به بعضهم ، وآمن بعضهم ، وقد كانوا قبل أن يبعث غير مفترقين فيه أنه نبي .
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ
يقول تعالى ذكره : وما أمر الله هؤلاء اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا إن يعبدوا الله مخلصين له الدين ، يقول : مفردين له الطاعة ، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك ، فأشركت اليهود بربها بقولهم إن عزيراً بن الله ، والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك ، وجحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : حنفاء قد مضى بياننا في معنى الحنيفة قبل ، بشواهده المغنية عن إعادتها ، غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر من الأخبار في ذلك :
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله مخلصين له الدين حنفاء يقول : حجاجاً مسلمين غير مشركين ، يقول : ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويحجوا وذلك دين القيمة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء والحنيفية : الخنتان ، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات والمناسك .
وقوله : ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة يقول : وليقيموا الصلاة ، وليؤتوا الزكاة .
وقوله : وذلك دين القيمة يعني أن هذا الذي ذكر أنه أمر به هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، هو الدين القيمة ، ويعني بالقيمة : المستقيمة العادلة ، وأضيف الدين إلى القيمة ، والدين هو القيم ، وهو من نعته لاختلاف لفظيهما . وهي في قراءة عبد الله فيما أرى فيما ذكر لنا ( وذلك الدين القيمة ) وأنثت القيمة ، لأنها جعلت صفة للملة ، كأنه قيل : وذلك قيل : وذلك الملة القيمة ، دون اليهودية والنصرانية .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ،قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله وذلك دين القيمة هو الدين الذي بعث الله به رسوله ، وشرع لنفسه ، ورضي به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال :قال ابن زيد ، في قوله كتب قيمة وذلك دين القيمة قال : هو واحد قيمة : مستقيمة معتدلة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ
يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوته ، من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم في نار جهنم خالدين فيها يقول : ماكثين ، لابثين فيها أبدا لا يخرجون منها ،ولا يموتون فيها أولئك هم شر البرية يقول جل ثناؤه : هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، هم شر من برأه الله وخلقه ، والعرب لا تهمز البرية ، وبترك الهمز فيها قرأتها قراء الأمصار ، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم ، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها ، وذهب بها إلى قول الله من قبل أن نبرأها [ الحديد : 22] وأنها فعيلة من ذلك ، وأما الذين لم يهمزوها ، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين : أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها ، كما تركوه من الملك ، وهو مفعل من ألك أو لأك ، ومن يرى ، وترى ، ونرى ، وهو يعفل من رأيت . والآخر : أن يكونوا وجهوها إلى أنها فعيلة من البرى وهو التراب ، حكي عن العرب سماعاً : بفيك البرى ، يعني به : التراب .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
وقوله : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية يقول : تعالى ذكره : إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد ، وعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطاعوا الله فيما أمر ونهى أولئك هم خير البرية يقول : من فعل ذلك من الناس فهم خير البرية .
وقد حدثنا ابن حميد ،قال : ثنا عيسى بن فرقد ، عن أبي الجارود ، عن محمد بن علي أولئك هم خير البرية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت يا علي وشيعتك
جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
يقول تعالى ذكره : ثواب هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم يوم القيامة جنات عدن يعني بساتين إقامة لا ظعن فيها ، تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها أبدا يقول : ماكثين فيها أبداً ، لا يخرجون عنها ، ولا يموتون فيها رضي الله عنهم بما أطاعوه في الدنيا ، وعملوا لخلاصهم من عقابه في ذلك ورضوا عنه بما أعطاهم من الثواب يومئذ ، على طاعتهم ربهم في الدنيا وجزاهم عليها من الكرامة .
وقوله : ذلك لمن خشي ربه يقول تعالى ذكره : هذا الخير الذي وصفته ووعدته الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوم القيامة ، لمن خشيء ربه : يقول : لمن خالف الله في الدنيا في سره وعلانيته ، فاتقاه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، وبالله التوفيق .