[
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّيقول تعالى ذكره : خسرت يدا أبي لهب ، وخسر هو .وإنما عني بقوله تبت يدا أبي لهب تب عمله . وكان بعض أهل العربية يقول : قوله تبت يدا أبي لهب : دعاء عليه من الله .
وأما قوله وتب فإنه خبر . ويذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( تبت يدا أبي لهب وقد تب ) وفي دخول ( وقد ) فيه دلالة على أنه خبر ، ويمثل ذلك بقول القائل لآخر : أهلكت الله وقد أهلكك ، وجعلك صالحاً وقد جعلك .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : تبت يدا أبي لهب قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال :ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة تبت يدا أبي لهب : أي خسرت وتب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول : تبت يدا أبي لهب قال : التب : الخسران ، قال :قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك ؟ قال : كما يعطى المسلمون ، فقال : ما لي عليهم فضل ؟ قال : وأي ششيء تبتغي ؟قال : تباً لهذا من دين تباً ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء فأنزل الله تبت يدا أبي لهب يقول : بما عملت أيديهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ،قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة تبت يدا أبي لهب قال : خسرت يدا أبي لهب وخسر .
وقيل : إن هذه السورة نزلت في أبي لهب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص بالدعوة عشيرته ، إذا نزل عليه وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214] وجمعهم للدعاء ، قال له أبو لهب : تباً لك سائر اليو ، ألهذا دعوتنا ؟
ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعشى ، عن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا ، فقال : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ قال : أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ، أما كنتم تصدقونني ؟ قالوا : بلى قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تباً لك ، ألهذا دعوتنا وجمعتنا فأنزل الله تبت يدا أبي لهب إلى آخرها .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن نمير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : لا نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ثم نادى : يا صباحاه فاجتمع الناس إليه ، فبين رجل يجيء ، وبين آخر يبعث رسوله ، فقال : يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني ... يا بني أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيراً بسفح هذا الجبل ( يريد تغير عليكم ) صدقتموني ؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : بتاً لك سائر اليوم ، ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت تبت يدا أبي لهب .
حدثنا أبو كريب ، قال :ثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن عرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214] ورهطك منهم المخلصين ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه فقالوا : من هذا الذي يهتف ، فقالوا: محمد ، فاجتمعوا إليه ، فقال : يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني عبد المطلب ، يا بني عبد مناف فاجتمعوا إليه ، فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : ما حربنا عليك كذباً ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة ( تبت يدا ابي لهب وقد تب ) كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان في قوله تبت يدا أبي لهب قال : حين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه وإلى غيره وكان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان اسمه عبد العزى فذكرهم ، فقال أبو لهب : تباً لك ، في هذا أرسلت إلينا ؟ فأنزل الله تبت يدا أبي لهب .
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَوقوله : ما أغنى عنه ماله وما كسب يقول تعالى ذكره : اي شيء أغنى عنه ماله ، ودفع من سخط الله عليه وما كسب وهم ولده .
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن داود بن محمد بن النكدر ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن خيثم ، عن أبي الطفيل ، قال : جاء بنو أبي لهب إلى ابن عباس ، فقاموا في البيت فقام ابن عباس ، فحجز بينهم ، وقد كف بصره ، فدفعه بعضهم حتى وقع على الفراش ، فغضب وقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث .
حدثنا أبو كريب ، قال ثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن محمد بن سفيان ، عن رجل من بني مخزوم ، عن ابن عباس ، أنه رأى يوماً ولد أبي لهب يقوتتلون ، فجعل يحججز بينهم ويقول : هؤلاء مما كسب .
حدثنا ابن بشار ، قال ، ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ما أغنى عنه ماله وما كسب قال : ما كسب : ولده .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله : وما كسب قال : ولده هم من كسبه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله وما كسب قال : ولده .
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍوقوله : سيصلى نارا ذات لهب يقول : سيصلي أبو لهب ناراً ذات لهب .
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِوقوله : وامرأته حمالة الحطب يقول : سيصلى أبو لهب وامرأته حمالة الحطب ، ناراً ذات لهب .
واختلفت القراء في قراءة حمالة الحطب فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة والبصرة ( حمالة الحطب ) بالرفع ، غير عبد الله بن أبي إسحاق ، فإنه قرأ ذلك نصباً فيما ذكر لنا عنه .
واختلف فيه عن عاصم ، فحكي عنه الرفع والنصب ، وكأن منرفع ذلك جعله من نعت المرأتة ، وجعل الرفع للمرأة ا تقدم من الخبر ، وهو ( سيصلى ) . وقد يجوز أن يكون رافعها الصفة ، وذلك قوله في جيدها وتكون ( حمالة ) نعتاً للمرأة . وأما النصب فيه فعلى الذم ، وقد يحتمل أن يكون نصبها على القطع من المرأة ، لأن المرأة معرفة ، وحمالة الحطب نكرة .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : الرفع ، لأنه أفصح الكلامين فيه ، ولإجماع الحجة من القراء عليه .
واختلف أهل التأويل ، في معنى قوله : حمالة الحطب فقال بعضهم : كانت تجيء بالشوك فتطرحه في طريق رسورر الله صلى الله عليه وسلم ، ليدخل في قدمه إذا خرج إلى الصلاة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وامرأته حمالة الحطب قال : كانت تحمل الشوك ، فتطرحه على الطريق النبي صلى الله عليه وسلم ، ليعقره وأصحابه . ويقال : حمالة الحطب : نقالة للحديث .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من همدان يقال له يزيد ، أن امرأة أبي لهب كانت تلقي في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الشوك ، فنزلت تبت يدا أبي لهب وتب وامرأته حمالة الحطب .
حدثني أبو هريرة الضبعي ، محمد بن فراس ، قال : ثنا أبو عامر ، عن قرة بن خالد ، عن عطية الجدلي ، في قوله : حمالة الحطب قال : كانت تضع العضاه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنما يطأ به كثيباً .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وامرأته حمالة الحطب كانت تحمل الشوك ، فتلقيه على طريق نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعقره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وامرأته حمالة الحطب قال : كانت تأتي بأغصان الشوك ، فتطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : قيل لها ذلك حالة الحطب ، لأنها كانت تحطب الكلام ، وتمشي بالنميمة ، وتعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : قال أبو المعتمر : زعم محمد أن عكرمة قال : حمالة الحطب : كانت تشي بالنميمة .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد وامرأته حمالة الحطب قال : كانت تمشي بالنميمة .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال :ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد حمالة الحطب قال : النميمة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة وامرأته حمالة الحطب : أي كانت تنقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وامرأته حمالة الحطب قال : كانت تحطب الكلام ، وتمشي بالنميمة . وقال بعضهم : كانت تعير رسول الله بالفقير وكانت تحطب فعيرت بأنها كانت تحطب .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان وامرأته حمالة الحطب قال : كانت تمشي بالنميمة .
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال : كانت تحمل الشوك ، فتطرحه في الطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن عيسى بن يزيد ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زيد ، وكان ألزم شيء لمسروق ، قال : ثنا نزلت تبت يدا أبي لهب بلغ امرأة أبي لهب أن النبي صلى الله عليه وسلم يهجوك ، قالت : علام يهجوني ؟ هل رأيتموني كما قال محمد أحل حطباً ( في جيدها حبل من مسد ) فمكثت ، ثم أتته ، فقالت : إن ربك قلاك وودعك ، فأنزل الله : والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى [ الضحى : 1_3].
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍوقوله : في جيدها حبل من مسد يقول : في عنقها ، والعرب تسمي العنق جيداً ، ومنه قول ذي الرمة :
فعيناك عيناها ولونك لونها وجيدك إلا أنها غير عاطل
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد ، في قول الله : في جيدها حبل قال : في رقبتها .
وقوله : حبل من مسد اختلف أهل التأويل في ذلك : ، فقال بعضهم : هي حبال تكون بمكة .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله في جيدها حبل من مسد قال : حبل من شجر ، وهو الحبل الذي كانت تحتطب به .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس حبل من مسد قال : هي حبال تكون بمكة . ويقال : المسد : العصا التي تكون في البكرة ، ويقال المسد : قلادة من ودع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال :قال ابن زيد ، في قوله حبل من مسد قال : حبال من شجر تنبت في اليمن لها مسد ، وكانت تفتل ، وقال حبل من مسد : حبل من نار في رقبتها .
وقال آخرون : السد : الليف .
ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو كريب ، قال :ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن السدي ، عن يزيد ، عن عروة في جيدها حبل من مسد قال : لسلسلة من حديد ، ذرعها سبعون ذراعاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن السدي ، عن رجل يقال له يزيد عن عروة بن الزبير في جيدها حبل من مسد قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عب الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن يزيد ، عن عروة بن الزبير في جيدها حبل من مسد قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن مجاهد من مسد قال : من حديد .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان في جيدها حبل من مسد قال : حبل في عنقها في النار مثل طوق ، طوله سبعون ذراعاً .
وقال آخرون : المسد : الحديد الذي يكون في البكرة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال :ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في جيدها حبل من مسد قال : الحديدة تكون في البكرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال :ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد حبل من مسد قال : عود البكرة من حديد .
حدثني الحارث ، قال :ثنا الحسن ، قال :ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد حبل من مسد قال : الحديدة للبكرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر عن قتادة قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : قال أبو المعتمر : زعم محمد أن عكرمة قال : في جيدها حبل من مسد إنه الحديدة التي في وسط البكرة .
وقال آخرون : هو قلاة من ودع في عنقها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في جيدها حبل من مسد قال : قلادة من ودع .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال :ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حبل من مسد قال : قلادة من ودع .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو حبل جمع من أنواع مختلفة ، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا ، ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز :
ومسد أمر من أيانق صهب عتاق عتاق ذات مخ زاهق .
فجعل إمراره من شتى ، وكذلك المسد الذي في جيد امرأة أبي لهب ، أمر من أشياء شتى ، من ليف وحديد ولحاء ، وجعل في عنقها طوقاً كالقلادة من ودع ، ومنه قول الأعشى .
تمسي فيصرف بابها من دوننا غلقاً صريف محالة الأمساد
يعني بالأساد : جمع مسد ، وهي الحبال .